فصل: تفسير سورة المدثر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (5- 10):

{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)}
وقوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} يعني القُرآن، واخْتُلِفَ لم سمّاه ثقيلاً، فقال جماعةٌ مِنَ المفسرينَ: لِمَا كَانَ يَحُلُّ برسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم مِنْ ثِقْلِ الجِسْمِ؛ حَتَّى إنَّه كَانَ إذا أُوحي إليه وهُو على نَاقَتِهِ؛ بَرَكَتْ بهِ وحَتَّى كَادَتْ فَخِذُه أنْ تَرُضُّ فَخِذَ زَيْدِ بن ثابت رضي اللَّه عنه، وقيل: لثِقَلِهِ على الكفارِ والمنافقينَ بإعْجَازِه ووَعْدِه ووعيدهِ ونحو ذلك، وقال حُذَّاقُ العلماء: معناه: ثَقِيلُ المَعانِي من الأَمْرِ بالطاعاتِ، والتكاليفِ الشرعية من الجهاد، ومزاولةِ الأعمال الصالحاتِ دائماً، قال الحسن: إنَّ الهَذَّ خَفِيفٌ ولَكِنَّ العَمَل ثقيل* ت *: والصوابُ عندي أَنْ يُقَالَ: أما ثِقَلُه باعتبارِ النبي صلى الله عليه وسلم، فهو مَا كَان يَجِدُه عليه السلامُ من الثقل المَحْسُوسِ وأما ثِقَلُه باعتبارِ سائرِ الأمةِ فهو ما ذُكِرَ من ثقل المعاني، وقَدْ زَجَرَ مالكٌ سائِلاً سأله عن مسألةٍ وَقَالَ: يا أبا عَبْدِ اللَّه؛ إنها مسألةٌ خفيفةٌ؛ فغَضِبَ مالكٌ وقال: لَيْسَ في العِلم خَفِيفٌ أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّه تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} فَالْعِلْمُ كُلُّه ثقيلُ، انتهى من المدارك لعياضٍ.
وقوله سبحانه: {إِنَّ نَاشِئَةَ اليل} قال ابن جُبَيْرٍ وغيره: هي لَفْظَةٌ حَبَشِيَّةٌ؛ نَشَأَ الرجلُ إذا قَامَ من الليلِ ف {نَاشِئَةَ} على هذا جَمْعُ ناشئ أي: قَائِمٌ، و{أَشَدُّ وَطْأً} معناه: ثُبُوتاً واسْتِقْلاَلاً بالقيام، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وجماعة كابن عباس وابن الزبير وغيرهم: وَطَاءً بكسر الواوِ مَمْدُوداً عَلى وَزْنِ فِعَالِ على معنى المُوَاطَأَةِ والموَافَقَةِ، وهو أن يواطئ قلبَه لسانهُ، والموَاطأةُ هِي الموافَقَةُ، فهذه مواطأَةٌ صحيحة؛ لخلو البَالِ من أشْغَالِ النَّهارِ، وبهذا المعنى فَسَّر اللفظَ مجاهدٌ وغيره، قال الثعلبيّ: واخْتَارَ هذه القراءةَ أبو عبيدِ وقال جماعة: {نَاشِئَةَ اليل} سَاعَاتُه كلُّها، لأَنَّها تَنْشَأ شَيْئاً بعد شيءٍ، وقيل في تفسير {نَاشِئَةَ اليل} غَيْرُ هذا، وقرأ أنس بن مالك {وأصْوَبُ قِيلاً} فقيل له: إنما هو {أَقْوَمُ} فَقَالَ: أقْوَمُ وأصْوَبُ وَاحِدٌ.
وقوله تعالى: {إِنَّ لَكَ في النهار سَبْحَاً طَوِيلاً} أي: تَصَرُّفاً وَتَرَدُّداً في أمُورِكَ، ومنه السِّبَاحةُ في الماء، {وَتَبَتَّلْ} معناه: انْقَطِعْ إليه انْقِطَاعاً؛ هذا لفظ ابن عطاء على ما نقله الثعلبي، انتهى، وأما * ع* فقال: معناه انْقَطِعْ مِنْ كلِّ شيءٍ إلا مِنْهُ وأفْزَعْ إليه، قال زيد بن أسلم: التَبَتُّلُ: رَفْضُ الدُّنْيَا، ومنه بُتِلَ الحَبْلُ، و{تَبْتِيلاً} مَصْدر على غير الصَّدْرِ، قال أبو حيان: وحُسْنُه كونُه فاصلةً، انتهى، قال ابن العربي في أحكامه: فالتَبَتُّلُ المأمورُ بهِ في الآيةِ الاِنْقِطَاعُ إلى اللَّهِ تعالى بإخْلاَصِ العِبَادَةِ، وَهُوَ اختيارُ البخاريّ، والتَبَتُّلُ المنهي عنه في الحديثِ هُو سُلُوكُ مَسْلَكِ النصارى في تَرْكِ النِّكَاحِ والتَّرَهُّبِ في الصوامِع، انتهى، والوَكِيلُ القائم بالأمْرِ الذي تُوكَلُ إليه الأشياء.
وقوله: {واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً} منسُوخٌ بآية السيف.

.تفسير الآيات (11- 14):

{وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)}
وقوله سبحانه: {وَذَرْنِى والمكذبين أُوْلِى النعمة} الآية، وعيدٌ بيِّنٌ، والمعنى لاَ تَشْغَلْ بهِم فِكْرَك وكِلْهُمْ إليَّ، والنعمةُ: غَضَارَةُ العَيْشِ وكِثرةُ المالِ والمشارُ إليهم كفارُ قريشٍ أصحابُ القليب بِبدرِ، و{لَدَيْنَا} بمنزلة عِنْدِنَا والأَنْكَال: جمع نَكْلٍ، وهو القَيْدُ من الحديدِ، ويُرْوَى أَنَّها قيودٌ سُودٌ مِن النار، والطَّعَامُ ذُو الغُصَّةِ شَجَرَةُ الزَّقُومِ، قَالَه مجاهد وغيره، وقال ابن عباس: شَوْكٌ من نارِ يَعْتَرِضُ في حُلُوقِهِم وكلُّ مَطْعُومٍ هُنَالِكَ فَهُو ذُو غُصَّة، ورُوِي أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ هذهِ الآيةَ فَصَعِقَ، والرَّجَفَانُ الاهْتِزَازُ والاضْطِرَابُ مِنْ فَزَعٍ وَهَوْلٍ، والمَهِيلُ: اللَّيِّنُ الرّخْوُ الذي يَذْهَبُ بالرِّيحِ، وقال البخاريّ: {كَثِيباً مَّهِيلاً} رَمْلاً سَائِلاً، انتهى.

.تفسير الآيات (15- 17):

{إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17)}
وقوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ...} الآية، خطابٌ للعالم لكِنِ المواجَهُونَ قريشٌ، و{شاهدا عَلَيْكُمْ} نَحْوُ قولهِ: {وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً} [النساء: 41] والوَبِيلُ: الشَّدِيدُ الرَّدَى.
وقوله تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ} معناه: كَيْفَ تَجْعَلُونَ وِقَايةً لأنفسِكم، و{يَوْماً} مفعولٌ ب {تَتَّقُونَ}، وقِيلَ: هو مفعولٌ ب {كَفَرْتُمْ} ويكونُ {كَفَرْتُمْ} بمعنى: جَحَدْتم، ف {تَتَّقُونَ} على هذا منَ التقوى، أي: تتقونَ عذابَ اللَّهِ، ويجوزُ أن يكونَ {يَوْماً} ظرفاً والمعنى: تتقونَ عِقَابَ اللَّه يوماً، وعبارةُ الثعلبي: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ} أي كيف تَتَحَصَّنُونَ من عذابِ يَوْمٍ يَشِيبُ فيه الطفلُ لهولِه إنْ كفرتُم، ثم ذَكَرَ نحو ما تقدم، انتهى، وحَكَى * ص *:، عن بعضِ الناسِ جَوازَ أنْ يكونَ {يَوْماً} ظرفَاً أي: فكيفَ لَكُمْ بالتقوَى في يومِ القيامَةِ إنْ كفرتم في الدنيا، * ت *: وهَذَا هُوَ مُرَادُ * ع *، قَالَ أبو حيان: و{شِيباً} مفعولٌ ثانٍ ل {يَجْعَلُ} وهُو جَمْع أشْيَب، انتهى.

.تفسير الآيات (18- 19):

{السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)}
وقوله تعالى: {السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ} أي ذاتُ انْفِطارٍ، والانفطارُ التَّصَدُّعُ والانْشِقَاقُ، والضميرُ في {بِهِ} قال منذر وغيره: عائِدُ على اليومِ؛ وكذا قَال * ص *: إن ضمير {بِهِ} يعودُ على اليومِ والباء سببيةٌ أو ظرفيةٌ، انتهى،، وفي صحيح مسلم مِنْ رواية عبدِ اللَّه بن عمرو: وذَكَرَ صلى الله عليه وسلم: «بَعْثُ النَّارِ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ إلَى النَّارِ وَوَاحِدٌ إلَى الجَنَّةِ، قَالَ: فَذَلِكَ يَوْمَ يَجْعَلُ الوِلْدَانَ شِيباً، وذلك {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} [القلم: 42]» الحديث، انتهى، وقيل: عائدٌ على اللَّه، أي مُنْفَطِرٌ بأمْرِه وقُدْرَتهِ، والضميرُ في قوله: {وَعْدُهُ} الظاهر أنَّه يعود على اللَّه تعالى.
وقوله تعالى: {إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ...} الآية، الإشَارَةُ ب هذه تحتملُ: إلى ما ذُكِرَ من الأَنْكَالِ والجحيمِ، والأَخْذِ الوبيل، وتحتملُ: أنْ تَكُونَ إلى السورةِ بجُمْلَتِها، وتحتملُ: أنْ تَكُونَ إلى آياتِ القرآن بجُمْلَتِها.
وقوله سبحانه: {فَمَن شَاءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً} لَيْسَ معناه إبَاحَةُ الأمْرِ وضِدِّه، بل الكلامُ يتضمَّنُ الوَعْدَ والوعيدَ، والسبيلُ هنا سبيلُ الخيرِ والطاعة.

.تفسير الآية رقم (20):

{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)}
وقوله سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ...} الآية، المعنى أنَّ اللَّهَ تعالى يعلمُ أنَّكَ تَقُومُ أنْتَ وغيرك من أُمَّتِك قياماً مختلفاً مَرَّةً يكْثُرُ ومرَّةً يَقلّ، ومرة أدْنَى من الثلثين، ومرة أدنى من النصفِ، ومرة أدْنَى من الثلث، وذلك لِعَدَمِ تَحْصِيل البَشَرِ لِمَقَادِيرِ الزمان، مع عُذْرِ النَّوْمِ، وتقديرُ الزمان حقيقةٌ إنما هو للَّهِ تعالى، وأما البشَرُ فلا يُحْصِي ذلك، فتابَ اللَّه عليهمْ، أي: رَجَعَ بهم من الثِّقَلِ إلى الخِفَّةِ وأمرهم بقراءةِ ما تيسَّر، ونحوَ هذَا تُعْطِي عِبَارةُ الفراء، ومنذر فإنهما قالا: تُحْصُوه تَحْفَظُوه، وهذا التأويلُ هو على قراءة الخفضِ عَطْفاً على الثلثين وهي قراءة أبي عمرٍو ونافعٍ وابن عامر، وأمَّا مَنْ قَرأَ: {ونصفَه وثلثَه} بالنَّصْبِ عَطْفاً على أدْنَى وهي قراءة باقي السبعةِ، فالمعنى عندَهم أنَّ اللَّه تعالى قَدْ عَلِمَ أنهم يَقْدِرُونَ الزمانَ على نحو مَا أَمَرَ بهِ تعالى، في قوله: {نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل: 3-4] فلم يبقَ إلا قوله: {أَن لَّن تُحْصُوهُ} فمعناه لَنْ يُطِيقُوا قيامَه لِكَثْرَتِهِ وشدتهِ، فَخَفَّفَ اللَّهُ عنهم فَضْلاً منه؛ لا لِعِلَّةِ جهلهم بالتقدير وإحصاء الأوقاتِ، ونَحوَ هذا تُعْطي عبارةُ الحسن وابن جبير؛ فإنهما قالا: تحصُوه: تُطِيقُوه، وعبارةُ الثعلبيِّ: ومَنْ قَرَأَ بالنَّصْبِ؛ فالمعنى: وتَقُومُ نصْفَه وثلثَه، قال الفراء: وهو الأشْبَه بالصَّوَابِ؛ لأنه قَالَ أَقَلَّ مِنَ الثلثينِ، ثم ذكر تفسيرَ القلةِ لا تَفْسِيرَ أَقَلِّ مِنَ القلةِ، انتهى، ولو عَبَّر الفَرَّاءُ بالأَرْجَحِ، لكانَ أحْسَنَ أدَباً، وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ: لاَ إله ِإِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدير، الحَمْدُ للَّهِ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَلاَ إله إلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّهِ» ثم قال: «اللَّهُمَّ، اغفر لي، أوْ دَعَا، استجيب لَهُ، فإنْ تَوَضَّأَ، ثمَّ صلى قُبِلَتْ صَلاَتُهُ»، رواه الجماعة إلا مسلماً، وَتَعَارَّ بتشديدِ الرَّاءِ مَعْنَاه: اسْتَيْقَظَ، انتهى من السلاح.
وقوله تعالى: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرءان} قال الثعلبيُّ أي: مَا خَفَّ وَسَهُلَ بغير مِقْدَارٍ مِنَ القِرَاءَةِ، والمُدَّةِ، وقيل: المعنى فَصَلُّوا ما تيسَّر فَعَبَّر بالقراءةِ عنها. * ت *: وهذا هو الأصَحُّ عند ابن العربي، انتهى، قال * ع *: قوله: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرءان} هو أمْرُ نَدْبٍ في قولِ الجمهور، وقال جماعة: هو فَرْضٌ لابد منه ولو خَمْسِينَ آيةً، وقال الحسنُ وابن سيرين: قيامُ الليل فَرْضٌ وَلَوْ قَدْرُ حَلْبِ شَاةٍ، إلا أنَّ الحسنَ قال: مَنْ قَرأَ مِائَة آيةٍ لَمْ يُحَاجَّهُ القرآن؛ واسْتَحْسَنَ هذا جماعةٌ من العلماء؛ قال بعضهم: والركعتانِ بَعْدَ العشاءِ مَعَ الوِتْرِ دَاخِلَتَانِ في امتثالِ هذا الأَمْرِ؛ ومن زَادَ زَادَهُ اللَّه ثواباً، * ت *: ينبغي للعاقِل المبَادَرَةُ إلى تَحْصِيلِ الخَيْرَاتِ قَبْلَ هُجُومِ صَوْلَةِ المَمَاتِ، قَالَ البَاجِيُّ في سنن الصالحين له: قَالَتْ بنت الربيعِ بْنِ خُثَيْمٍ لأبيها: يا أبَتِ ما لِي أَرَى النَّاسَ يَنَامُونَ وأنْتَ لاَ تَنَامُ، قال: إنَّ أَبَاكِ يَخَافُ البَيَاتَ، قال الباجيُّ رحمه اللَّه تعالى: ولي في هذا المعنى: [من الرجز]
قَدْ أَفْلَحَ القَانِتُ في جُنْحِ الدجى ** يَتْلُو الْكِتَابَ العَرَبِيَّ النَّيِّرَا

فَقَائِماً وَرَاكِعاً وَسَاجِدا ** مُبْتَهِلاً مُسْتَعْبِراً مُسْتَغْفِرَا

لَهُ حَنِينٌ وَشَهِيقٌ وَبُكَا ** يَبُلُّ مِنْ أَدْمُعِهِ تُرْبَ الثرى

إنَّا لَسَفْرٌ نَبْتَغِي نَيْلَ الهدى ** فَفِي السرى بُغْيَتُنَا لاَ في الْكَرَا

مَنْ يَنْصَبِ اللَّيْلَ يَنَلْ رَاحَتَهُ ** عِنْد الصَّبَاحِ يَحْمَدُ القَوْمُ السرى

انتهى، والضربُ في الأرضِ هو السَّفَرُ للتجارةِ ابتغاءَ فضلِ اللَّهِ سبحانه، فذكرَ اللَّه سبحانه أعْذَارَ بني آدمَ التي هي حائلةٌ بينَهم وبيْنَ قيامِ الليل، ثم كرَّر سبحانَه الأَمْرَ بقراءةِ ما تَيَسَّر منه تأكِيداً، والصلاةُ والزكاة هنا هما المفروضَتَانِ، فمن قال: إن القِيَامَ من الليلِ غَيْرُ واجبٍ؛ قال: معنى الآية خُذُوا من هذا النَّفْلِ بما تَيَسَّر وحَافِظُوا على فَرَائِضِكم، ومَنْ قال: إن شَيْئاً من القيامِ واجبٌ؛ قال: قَدْ قَرَنَه اللَّهُ بالفرائِضِ؛ لأنه فَرْضٌ وإقْراضُ اللَّه تعالى هو إسْلاَفُ العملِ الصالحِ عنده، وقرأ جمهورُ الناس {هو خيراً} على أن يكونَ {هو} فَصْلاً، قال بعضُ العلماءِ: الاستِغفارُ بَعْدَ الصلاة مُسْتَنْبَطٌ من هذه الآيةِ، ومن قوله تعالى: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اليل مَا يَهْجَعُونَ * وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17-18] قال * ع *: وَعَهَدْتُ أبي رحمه اللَّه يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ إثْرَ كل مكتُوبةٍ ثَلاَثَاً بِعَقِبِ السلام، ويأثر في ذلك حديثاً، فكان هذا الاستغفارُ من التقصيرِ وتَقَلُّبِ الفِكْرِ أثْنَاء الصلاة، وكان السلفُ الصالحُ يُصَلُّونَ إلى طلوع الفجر؛ ثم يجلسُون للاسْتِغْفَارِ. * ت *: وما ذكره * ع *: رحمه اللَّه عَنْ أبيه رَوَاهُ مسلم وأبو داودَ والترمذي والنسائي وابنُ ماجَه عن ثوبان قال: «كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا انصرف مِنْ صَلاَتِهِ، استغفر ثَلاَثاً وقَالَ: اللَّهُمَّ، أَنْتَ السَّلاَمُ وَمِنْكَ السَّلاَمُ تَبَارَكْتَ يَا ذَا الجَلاَلِ والاكرام»، قال الوليدُ: فقلتُ للأوزاعيِّ: كَيْفَ الاسْتِغْفَارُ؟ قال: تَقُولُ: أسْتَغْفِرُ اللَّهَ، أسْتَغْفِرُ اللَّهَ، أسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وفي روايةٍ لمسلم من حديثِ عائشةَ: «يَا ذَا الجَلاَلِ والإكْرَامِ»، انتهى من سلاح المؤمن.

.تفسير سورة المدثر:

وهي مكية بإجماع.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 6):

{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)}
قوله عز وجل: {ياأيها المدثر * قُمْ فَأَنذِرْ} الآيةَ، اخْتُلِفَ في أول ما نزل من القرآن، فقال الجمهورُ هو: {اقرأ باسم رَبِّكَ} وهذَا هو الأَصَحُّ، وقال جابرٌ وجماعةٌ هو: {ياأيها المدثر}، * ص *: والتَّدَثَّرُ: لُبْسُ الدِّثَارِ، وهو الثَّوْبُ الذي فَوْقَ الشِّعَارِ، والشِّعَارُ الثَّوبُ الذي يلي الجَسَدَ؛ ومنه قوله: عليه السلام: «الأَنْصَارُ شِعَارٌ، وَالنَّاسُ دِثَارٌ» انتهى.
وقوله تعالى: {قُمْ فَأَنذِرْ} بَعْثَةٌ عامةٌ إلى جميع الخلق.
{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أي: فعظمْ.
{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} قال ابنُ زيدٍ وجماعة: هو أمْرٌ بتطهيرِ الثيابِ حَقِيقةً، وذَهَبَ الشافعيُّ وغيرُه من هذه الآيةِ إلى: وجُوبِ غَسْلِ النَّجَاسَاتِ مِنَ الثيابِ، وقالَ الجُمْهُورُ: هَذِه الألْفَاظُ اسْتِعَارَةٌ في تنقيةِ الأفْعَالِ والنَّفْسِ، والعْرِضِ، وهذا كما تقول: فلانٌ طَاهِرُ الثوبِ، ويقال للفَاجِر: دَنِسُ الثَّوْبِ، قال ابن العربي في أحكامه: والذي يقول إنها الثيابُ المَجَازِيَّة أكْثَرَ، وكثيراً ما تستعملُه العَرَبُ، قال أبو كَبْشَةَ: [الطويل]
ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طهارى نَقِيَّةٌ ** وَأَوْجُهُهُمْ عِنْدَ المَشَاهِدِ غُرَّانُ

يعني: بطهارةِ ثيابهم وسلامَتَهم من الدَّنَاءَاتِ، وقال غَيْلاَنُ بْنُ سَلَمَةَ الثَّقَفِيُّ: [الطويل]
فَإنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لاَ ثَوْبَ فَاجِرٍ ** لَبِسْتُ وَلاَ مِنْ غَدْرَةٍ أَتَقَنَّعُ

ولَيْسَ يمتنع أن تُحْمَلَ الآيةُ على عمومِ المرادِ فيها بالحقيقةِ والمجازِ على ما بيَّناه في أصولِ الفقه، وإذا حملنَاها على الثيابِ المعلومَة؛ فهي تتناول معنيين: أحدهما: تَقْصِيرُ الأَذْيَالِ؛ فإنَّها إذا أُرْسِلَتْ تَدَنَّسَتْ، وتَقْصِيرُ الذيلِ أَنْقى لثَوْبِه وأتْقَى لربِّه، المَعْنَى الثَّاني: غَسْلُها من النَّجاسَةِ فهو ظَاهِرٌ منها صحيحٌ فيها، انتهى، قال الشيخ أبو الحسن الشاذليُّ رضي اللَّه عنه: رأَيْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في المَنَامِ، فقالَ: يَا عَلِيُّ، طَهِّرْ ثِيَابَكَ مِنَ الدَّنَسِ، تَحْظَ بمَدَدِ اللَّهِ في كُلِّ نَفَسٍ، فَقُلْتُ: وَمَا ثِيَابي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ كَسَاكَ حُلَّة المَعْرِفَةِ، ثُمَّ حُلَّةَ المَحَبَّةِ، ثُمَّ حلةَ التَّوْحِيدِ، ثُمَّ حُلَّةَ الإيمَانِ، ثُمَّ حُلَّةَ الإسْلاَمِ، فَمَنْ عَرَفَ اللَّهَ صَغُرَ لديْهِ كُلُّ شَيْءٍ، ومَنْ أَحَبَّ اللَّهَ هَانَ عَلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ، وَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ، لَمْ يُشْرِكْ به شَيْئاً، ومَنْ آمَنَ بِاللَّهِ أَمِنَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَمَنْ أَسْلَمَ لِلَّهِ قَلَّمَا يَعْصِيهِ، وإنْ عَصَاهُ، اعتذر إلَيْهِ، وَإذَا اعتذر إليه، قَبِلَ عُذْرَه، قال: فَفَهِمْتُ حِينَئِذٍ معنى قولِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} انتهى من التنوير لابن عطاء اللَّه.
{والرجز} يعني الأصْنَام والأَوثَانَ، وقال ابن عباس: الرُّجْزُ السَّخَط يعني: اهْجُرْ ما يؤدي إليه ويوجبُه، واخْتُلِفَ في معنى قولهِ تعالى: {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} فقالَ ابن عباس وجماعة: معناه لاَ تَعْطِ عَطَاءً لِتُعْطَى أكْثَرَ منه، فكأَنه من قولهم: مَنَّ إذَا أَعْطَى، قال الضحاك: وهذَا خاصُّ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم ومُبَاحٌ لأُمَّتِه، لكنْ لاَ أجْرَ لهم فيه، وقال الحسن بن أبي الحسن: معناه ولاَ تَمْنُنْ على اللَّهِ بِجِدِّكَ، تَسْتَكْثِرْ أعْمَالَك، ويَقَعْ لَكَ بها إعْجَابٌ، قال * ع*: وهَذَا مِنَ المنِّ الذي هو تعديدُ اليَدِ وذكرُها، وقال مجاهد: معناه ولاَ تَضْعُفْ تَسْتَكْثِرْ مَا حَمَّلْنَاك من أعباء الرسالةِ، وتستكثرْ مِنَ الخَيْرِ؛ وهَذَا من قولهم حَبْلٌ مَنِينٌ أي: ضعيفٌ.

.تفسير الآيات (7- 10):

{وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)}
{وَلِرَبِّكَ فاصبر} أي لوجهِ ربِّكَ وطَلَبِ رضَاهُ فاصْبِرْ على أذَى الكفارِ، وعلى العبادةِ وَعَنِ الشَّهَوَاتِ وعَلَى تَكَالِيفِ النُّبُوَّةِ، قال ابن زيدٍ: وعَلَى حَرْبِ الأَحْمَرِ، والأَسْوَدِ، ولَقَدْ حُمِّلَ أمْراً عَظِيماً صلى الله عليه وسلم، والنَّاقُورُ: الذي يُنْفَخُ فيه، وهو الصُّور؛ قاله ابن عباس وعكرمة؛ وهو فَاعُولُ مِنَ النَّقْرِ، قال أبو حباب القصاب: أَمَّنَا زُرَارَةُ بنُ أَوْفَى؛ فَلَمَّا بَلَغَ {فَإِذَا نُقِرَ في الناقور} خَرَّ مَيِّتاً، قال الفخر: قوله تعالى: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} أي: على الكافرين، لأَنَّهُمْ يُنَاقَشُونَ {غَيْرُ يَسِيرٍ} أي: بلْ كَثِيرٌ شَدِيدٌ فأمَّا المؤمِنونَ؛ فَإنَّه عليهم يَسِيرٌ؛ لأَنَّهم لا يُنَاقَشُونَ، قال ابن عباس: ولما قال تعالى: {عَلَى الكافرين غَيْرُ يَسِيرٍ} دَلَّ على أنه يسيرٌ على المؤمنينَ، وهذا هو دليلُ الخِطَابِ، ويحتملُ أَنْ يكونَ إنما وَصَفَه تعالى بالعُسْرِ لأنَّه في نفسِه كذلك للجميع من المؤمنين والكافرين، إلاَّ أَنَّه يكونُ هَوْلُ الكفار فيه أَكْثَرُ وَأَشَدُّ، وعلى هذا القولِ يَحْسُن الوَقْفَ على قوله: {يَوْمٌ عَسِيرٌ} انتهى.